وروورود الديدحان
( قصة حلم)
كان ثائراً، يحمل في داخله مجهول ، مرهفاً
في نظراته جمال فاتن ورزانة توحي بثورةٍ
على شــــيء مــا
أحبّ جواد أبيه العبية
التي ألفت قدومه ليمسح جبينها ويلمس شفتيها فترفع رأسها شموخاً ثم
تضعه على صدره ، ربما لتشعر بحنانه
أولأنها متعبة مما في بطنها ، فقد مرت أشهرعلى لقائها
الحميمي مع كحيلان الذي صفا نسله بين الأصائل في الخيل
يدعو ربه أن تضع مهراً ذكراً، يتساءل ماذا يسميه يراقبه أبوه فيعنىنىنىنىوووىوىلاونبهثتتبىبرلاتجب
بتصرفاته ، ربما لأنها فريدة محمودة أو لأنها تذكره بشبابه الذي فني فهو شديد
البأس لا يداس له على طرف وأبنه الثأئر على كل ما يقيد الحريه............
يبقى وحيداً خارج المضارب فلا يعود إليها إلا بعيد
المساء فيدخلها متباطئ الخطى حتى يصل بيت أهله ، يلقي السلام ، ويخرج من البيت
مثلما دخله بتباطىْْْء فأبوه يكلفه بتفقد الأغنام في
المساء..... فهناك خراف نفرتها أمهاتها
فلا بد من رعايتها.
يمسك بأنامله الحبل الذي أخذ يفلت منه كلما اقترب من
الوتد ينظر إلى أخيه، يجده مشغولاً لا يكاد ينظر إلى ما حوله غير مبال به، إن عمل
معه أو جلس يراقبه، لم يطلب منه البقاء أوالرحيل
هذه الخراف أنكرتها أمهاتها راحت تتزاحم على ثدي نعجة
أمسكها ناصر ، ظفر بالثدي أقواها ، إنها شريعة الأنتقاء .
ولكنه يطرد اقواها مساعدا الضعاف
ينهي عمله ، يستلقي على الأرض ، يراقب النجوم ، يحدق
بالزهرة ، تأسره بقوة سحرها ووضوح جمالها فلا يلتفت الى بقية النجوم ,تعيده العبية
بصهيلها إلى عالمه المبهم ويستيقض من تأملاته
يدخل البيت
متجهاً نحو المحرم، تستقبله أمه الحنون، تعيد جدل ضفائره السوداء الطويلة.
كان وحيداً لأمه ، لديه أخت تصغره كثيراً تشاطره دلال
أمه التي لا تكاد تنهي جدل ضفائره حتى تأتي زوجة أبيه بالعشاء ، فالعادة تحتم عليه
أن يكون جائعاً في مثل هذا الوقت ، إلا أن جوعه مختلف عن جوع بني البشر ، جوع يدفعه إلى الخروج من المحرم إلى الربعة
تتبعه أمه بالطعام فلا يجد بداً من تناوله، ينهي طعامه
بصمت يلفه الغموض.
يراقب أبوه هذا الصمت بتخوف ، إلا أن صمته لن
يستمر طويلاً فها هو ينهض لاستقبال رجال الحي الذين اعتاد أحاديثهم وألفها في ربعة أبيه. إنهم لا يتجاوز عددهم
أصابع يدي ناصر. يطوف عليهم بالقهوة المرة المنكهة بالهيل.
إنهم أقرباؤه وسنده، إنهم لوح محفوظ يقرأ فيه أمجاد سلفه
كلما تحدثوا عن جده الذي اقترن اسمه بملاحم عصره، يتحدثون عن جلده في تحمل نوائب
الدهر.
يرى ناصر هذه الأحاديث عبر خيط أسود ......كان القوم مرتحلين الى وجه الشمس،
أغارت عليهم خيل الموالي، نفرت الإبل، وانتفض فرسان الحي كأسودالغاب حين اقترب
الخطر من عرينها ، حمي الوطيس ، خضبت السيوف بالدماء ، شكت الرماح .
يشعر ناصر بالفخر بهذا السلف ، فخر يمحوه الحزن
بلحظات....... فجده ثاني طعن برمح في رجله اليسرى ، نزعه بقوة ، ليطعن رمح آخر
جواده فيسقطا معاً على ألأرض ، حاول النهوض وأنّى له ذلك ، فسنابك الخيل فتاكة
أسقطته ثانية ليفقد الوعي ، تابع قومه فلول الغزاة . لقد انتصروا
فحمدوا الله واحتسبوه وكيلاً على ما جرى فالنصر ثمنه غال. لم يعثر العبيد
على سيدهم ثاني بين القتلى، فهم كثر قد أغرقتهم الدماء.
يتابع القوم المسير حاثين
الخطى في حين يلجأ ثاني إلى كهف قريب ساقه
القدر إليه ليتخذه مسكناً كما اتخذته تلك الشاة الضعيفة التي تركهاأهلها ترعى
بالقرب من الكهف ،ثم تعودإليه.
فحملها حبسه الجريح ليضمن عودة الشاة طمعاً في لبنها ،
تمر الأيام والجرح يزداد خطورة فمياه الغدير ووذح الشاة وبعض الأعشاب البرية لم
تزد الجرح إلا تعفناً . نظم ثاني قصائد كثيرة يمجد قومه الذين
تركوه، وكثيراً ما أنشد شوق لابنه الصغير
وأختيه.
مرت أيام وشهور ولم يمر أحد بهذه الأرض المجدبة ، لكن
أمل ثاني كبير في رؤية أهله في تغاريبهم ، يسمع ثغاء الأغنام ورغاءالإبل ، يخرج من
كهفه تعرفت إليه ناقة شقحاء وضعت رأسها على صدره ، اشتمت جرحه فكاد ينسى ألمه .نزل أهله تلك الأرض المجدبة ونحروا القرابين ثلاثة أيام
، لكن الجرح مازال يزداد خطورة ، حمله بضعة من
أقربائه الى المدينة .ولكن الاجل وافاه.. ترك وصيته مع من
حمله ميتاً إلى أهله.
ومرت الأحداث في خاطر الزمن ...يتنحنح أبوه فيقوم ناصر ليطوف بالقهوة على الرجال ، تهتز الفناجين بأيديهم
، يضع الدله إلى جانب النار يضع أعواد النيتول على النار فيزداد لهبها ، يعود إلى
مكانه ، يتساءل " لماذا والدي
طرد العبيد ؟! أراد أن يسأله لكنه خشي أن يسيء فهمه .
، ينصرف السامرون ، يخلد أبوه للنوم ، وما تزال تلك
الأفكار تقض مضجع ناصر ، يرتشف ثلاثة فناجين من القهوة ، يتكئ على الشداد ، يسمع
صهيل العبية ، ينظر إليها وقد أرهقها المخاض ، يطول انتظاره ، يحترق شوقاً لمعرفة
المولود ، يجلس القرفصاء ، يرفع رأسه ، فيرى نجمته وقد تبدل مكانها ، تزداد هواجسه
ليخنقها بكاء أخيه الصغير الذي ما انفك
أبوه في تقديم القرابين لله على أمل شفائه ، كان هزيلاً أنهكه السقم ، جلب له أبوه
الحكيم ، وأخذه مرارللمدينة لكن دون جدوى . يحدث الصمت، تقف العبية ، يتقدم نحوها ، إلا أن النحيب يعيده إلى
المحرم ، لقد مات عويد ، فأخذت تتناوبه الأحضان وتبلله الدموع لقد اعجل بالرحيل
.خرج ناصر من المحرم،صممتت الاصوات حتى الابل والاغنام لم
تعد تجتر
نظر إلى السماء
فبدت وكأن نجومها تغور، إلا أن نجمته باقية لم تخطفه من عالمه هذه المرة،
فالنحيب قوي وزفرات أبيه عاتية.
ناصر عد إلى فراشك ...
ولكن ناصر لم يتحرك فيه شيء غير قلبه ودموعه
، أمسكه أبوه فازداد نحيباً ، احتضنه ليتوحد نحيبهما
ولتختلط الدموع .
اندس ناصر تحت لحافه ولكن زفراته وصلت إلى مسمع أبيه الذي
خرج من البيت إلى حيث لا يسمعه احد ، ثم عاد إلى ربعته ،
أضرم ناراً أثارت ريبة جاره الذي علم حال دخوله الربعة ، قدم مواساته وخرج ليخبر
الحي
وقعت عيناه على مهر وليد فقال هذا نذير شؤم، نقش هذا
التشاؤم في ضمير ناصر.
تجمع أهل الحي في الصباح ، حفروا للفقيد لحداً غسلوه
نثروا على جسده الهزيل العنبر والحناء والمحلب ، كفنوه بقطعة قماش بيضاء ، صلوا
عليه ، قرؤوا الفاتحة على روحه ، ثم واروه
الثرى ، وضعوا له شاهداً أكبر من رأسه.
وقف ناصر إلى جانب أبيه وأخيه لتلقي التعازي. عاد الجميع إلى النزل.نحرت الأبكار
في الأيام الثلاثة الأولى من وفاة عويد ولو كان العرف يجيز نحرها حولاً لفعل أبوه
ذلك فهو غني ورث عن أجداده حق الإتاوة التي تجبى له من قرى وقبائل تعهد بحمايتها
ورد مظالمهم وما يسلب منها كقرى عرجون
والزراعة والمنزول وبويضان وعشائر الشقيّف والتركمان والطويلع ، فهو أخوهم بالعرف
المتبع ، يسكن مواطنهم متى شاء وهم في رحابة صدر من ذلك إلا أن
عرجون كانت قرة عينه و موطنه في القيظ
ومن وراء القاطع الذي يفصل بين المحرم والربعة نادته
زوجة أبيه قبلت رأسه اشتمت ضفائره ، وضعت رأسه على صدرها فرائحة عويد تعبق من هذه
الضفائربكت و أبكته ، أدار ظهره وخرج من البيت . اتجه إلى
العبية وجدها ترضع المهر . اقترب منه فهرب بعيداً، وضع يمينه على
عنقها ومسح بيساره جبينها، تمسحت به واشتمته. اقترب المهر من
ناصر، أمسك به فراح يسحب نفسه حتى تمكن من الافلات وراح يعدو سريعاً ثم يعود بنفس
السرعة حتى يكاد ان يصطدم به ليقف إلى جانبها."
ناصر دع عنك
المهر واذهب بالزاد إلى الرعاة
حمل المزاود الثلاث ومر بأخيه كان متوسط القامة ذو بشرة
بيضاء دائم الابتسام ، لم يسمعه يسب أحداً أو يضرب شاةً ، يتجول بين رعيته فلا
تجفل منه . ألقى عليه التحية، وأجاب دعوته بتناول
الزاد سوية بعد جولته على البقيه.
اتجه إلى صالح الذي كان كثير الكلام عن أحوال المراعي
وأماكن الكلأ ، ناوله مزودته وتابع المسير بأتجاه الزويدي إنه بعيد لا يكاد يظهر خلف السراب وكانها جبال تسبح في
الفضاء ،ليجده قد قيد زمله واختار صخرة كبيرة يتفيأ
تحت ظلها فخرجت قدماه عن حدود الظل .
رحب بقدوم ناصر " أهلاً أبا المثنى ..."
أبا المثنى لم ينخ ذلوله دلا بساقيه وبيده المزودة صافحه
وسأله " هل ينقصك شيء ؟
"قال بارك الله فيك هذه تكفي سبعة أيام
ونيف وقد أعود بعد ثلاث ليالي أو أربع.
انصرف إلى أخيه مسرعاً يحث رحوله بعصا الخيزران فوجده لم يفتح زاده بعد ، أناخ رحوله وجلس مع أخيه . قال أخوه " بسم الله "...فسمّى ، تناولا حبات التمر المغموسة بالزبدة والتي تفوح
منها رائحة الربيع .قال كلمات غير مفهومة، نظر إليه أخوه" ناصر قل ما بك قد بلغت الخامسةعشرة "
ناصر يريد أن يقتل وحدته ، يريد أن يعتزل صمته ، أن يبوح
بسره ، كان يشعر بالعزلة على الرغم من أنه محبوب من قبل أصدقائه . كان يريد أن يفجر ثورته ،
يريد أن يخرج هذا الإنسان الخبيء الثائر . نعم أريد أن أعسّف المهر مبكراً وأن أتغنى بفروسيتي، لكن غموضه يمنعه من
البوح .
كرر أخوه السؤال " قد بلغت الخامسة عشرة ، أعلم أنك صياد ماهر لم تخطئ غزالاً قط ".
ليسأله ناصر" لم عزفت عن هذا ؟" طرق رأسه هنيهة وقال بابتسامة لن اقتل ولكن ما اعتدى علينا أحد وربح ،...
ياناصر:لقد
أخبرت أن صالح يريد الذهاب إلى الشنبل
لقد أوفى عامه ، ويجب أن تسد مكانه ." صمت وتناول حبة تمر ولملم المزودة ثم وضعها جانباً ،
تناول الجود وشرب الماء
ترك رحوله وذهب ماشياً إلى ربوة . أحس بنسمات باردة مرت على عقله فبرد جسده
،أحس بنعيمها ولكن ريقه بدأ يجف ، أخذ حصيات فركها بيده
حتى ذهبت حرارتها وضعها في فمه ، يستحلب لعابه . سار باتجاه الجنوب يرى كحلاً ورماح المنتصب وأودية
الحماد المتجهة للشمال .
كان عندما يرقى المشارف يحس بالسعادة كأنها تاريخ قد مر
به، في نزوله تمر عليه أحلام
المراهقين، إن للعشق أحاسيس حلوة شجية. لقد رأى في عيون الفتيات حبا
ًفي نظراتهن يرسلن كلمات الهيام، ، يرفض الفكرة، يرفض
الأسر.
يقف يراقب النزل. آه لو كان لي
جناحين كذلك الطير أجول ". آه لو أعرف
ماذا وراء البحر لقد سحرني . لكن رائحته ليست كرائحة الصحراء النقية الصافية المتجردة
الواضحة البعيدة . ولكنه لطيف وجميل وساحر".
يعود بذاكرته إلى السنين العجاف ، كيف وصلوا إلى بانياس
ونزلوا قريباً من البحر ". إن البدو يجوبون العالم بينما لا أرى ابن المدينة في
الصحراء. لقد رضوا بالأسر والقيد ، بالهواء
الفاسد والأبواب الموصدة، بينما نحن لا نضع إلا رواقاً واحداً خلف البيوت ونستقبل
الكون والضيوف..... تخيفهم الوحوش و يسلب محاصيلهم الاغاوات و جنود الأتراك فيدسون
أنوفهم في حياتهم ، يأخذون أبنائهم للحرب . كيف يرضون بذلك
،.. أم أنها قوة تستعبد ، مهما يكن إنه
الذل.
إن حياة الصحراءقاسيه و هي الحرية، لكن ليست الحرية
المطلقة. الحرية التي لا حدود لها، الممتدة الواسعة الصافية كهذه السماء بل أبعد
من هذه السماء، سماء خلف الشمس، على مدى هذا الكون.
ازدادت حرارة الشمس، نز من جسده العرق وسخن الهواء ليجف
عرقه على ثوبه فرآه أبيض كالملح. مر بالفرس ، مسح جبينها ،" قد
كبر ابنك "،فك القيد من يديها ، عاد بها إلى البيت ، كانت والدته قد أنهت خض
الحليب واستخرجت منه الزبدة .سكبت اللبن – الشنينة – في حوض من الخشب ، شربت العبية حتى ارتوت .ربطها ناصر في حبل البيت .
استقبلته أمه ، مازح أخته ممسكاً بجديلتيها الصغيرتين ،
أثقل عليها بالمزاح هددته بأن تخبر أباها ، لم يأبه لأنه يدرك أنها لن تشتكيه
أقبلت الأغنام من المراعي ، خرجوا جميعاً من البيت إلا
والده فقد بقي عند قهوته وضيوفه ، تجمعت الأغنام كأنها كتل من صخر يتحرك ، فصلت
الحيل والخراف ، أمسك دويشر بالشباق – حبل طويل غزل وجدل من الصوف – أمسك برأسين من الغنم مخالفتي الرأس ، وهكذا حتى آخر
نعجة .
حاولت بعض الشياه الإفلات من الشباق ، لكن دون جدوى
فصيحات ناصر وعصاه يعيدها إلى يدي دويشر .
جاء أخيه الذي كان متزوجاً من إحدى فتيات عشيرة النعيم ،
والده عندما أراد تزويجه ، كان يبحث عن الأصل والمكانة الاجتماعية والأسرة العريقة
فاختارله من شيوخ العتيق ، فهم رجال صناديد لا ينكرهم أحد ، لم يرضخوا للأتراك ولم
يدفعوا إتاوة يوماً .كانوا يعرفون عبيد وابنه، رزق عبيد
بحفيد ، حفيد مدلل،لا يلبسه إلا الجوخ الموشح بالقصب الأصفر، ينادي جده يا أبي، لا
يطيق أن يفارق هذا الجد.وكان جده كلما ذهب إلى المدينة، أتى
بحمل من الزبيب ومكعبات الحلو والهدايا
للطفل المدلل، كان المرح يتدفق من وجنتي الأب الصافيتين وهو يرى ابنه وقد أصبح
رفيقاً لأبيه وأنيساً له. عاد الجميع
الى البيت بما فيهم الطفل الصغير الذي
داعبه أبوه دعاباً ثقيلاً جعله يشتكي لجده ويقول هذا ضربني ودفعني على الأرض ، ضحك منه الجميع . دخل ناصر مع أخيه الـربعة ، ألقوا السلام على الضيوف .
ناصر ...
أحضر الطعام.
تقدم المائده .جلس الجميع
للطعام ، تتابع الضيوف بالانتهاء ، مسحوا أيديهم بالرفّة التي أخذت تقطر دهناً
يعكس أشعة الشمس الحارقة . غسلوا أيديهم بالماء والتراب، أدخل
الطعام المحرم . قدّم ناصر
القهوة للضيوف ، وضع الدله بالقرب من الجمر وجلس في الربعة ، استأذن الضيوف وخلت
الربعة إلا من ناصر وأبيه .
-ناصر ؟ كيف هو حال الزويدي والبقية ؟
إنهم بخير ، والماشية على ما يرام . حتى أن الجمل الذي اشتريته من قبيلة الشرارات عندما انتجعنا أثرى وكاف لم
تنتابه حالة الهيجـان التي كادت تفتك بي السـنة الماضـية . كيف أصبح يهدر
ويزبد ؟ كيف كان زبده كمنديل أبيض، إلا أننا سيطرناعليه
- الحمد لله يا ولدي قدّر ولطف .
- هز ناصر رأسه موافقاً..... ثم صمت
صمتاً عميقاً... ليتاح لناصر فرصة
التحليق في فضاءات الخيال ، فاراً من
ماضيه إلى مستقبل لما يأتي بعد…..
يرى المهر قد كبر وتروض، ليعطيه أبوه
الهدية إنها حصان مع سيف وبندقية
جديده،يوصله خياله إلى هضبة عالية يرى حجارةمبعثرة، إنها بقايا قبر. نبت بجانب القبروعند رأسه ورود الديدحان ، فقد أعاد
لناصر ذكريات الحلم المجهول .
يقف ناصر عند هذه الذكريات ، ويتمنى
لوينبت هذاالديدحان الأحمر عند قبره ،وعلى الشفق الأحمر كتب وصيته او فوق ربوة حزينة ، إنه نفس المكان حجارة داثره
وديدجان وقريقش نبت على تلك الحجاره المبعثره
.دخل الليل دون استئذان،ولم
يجد نفسه الا في ظلمة الليل وكأنه غاب دهراً عن الوجود
اجتمع رجال الحي في ربعة ابيه فالمياه بدأت بالجفاف
. قرروا الرحيل، ومع الخيط
الابيض من الفجر سارت المواشي
وفي اليوم التالي لحقت بها الإبل.
جاؤوا بالزمل المخصية ، كل واحد منها
قدخصصت لنوع من المتاع حملت بيوت الشعر
على الزمل ، ركبت النسوة في أكوارهن . امتطى أبو ناصر العبيةوأناخ ناصر
رحوله فركب ثم نهضت لتسيرباتجاه بئر الباردة حيث تم التجمع لتتوارد
المواشي وتحلب ويسكب حليبها للخيل لم
تطل اقامتهم
فهم في حل وارتحال دائما
يجانبون الابل ويحرسون المواشي متقلدين الحديد
والنار فهم متجهون إلى عرجون على ضفاف العاصي ، وهاهم على مشارف القمقوم والجباة
مروا بعين الغنثر ، أقاموافيها أياماً معدودة كان شوق أبو ناصر لقريته الوادعة على
ضفاف العاصي
عبر الصحراء التي مر بها ، تمر آلاف السنين عبر خيط أسود
عليه موشحات بيضاء ، قرأ بعضها وفك طلاسم كثيرة منها ، مرت به آلاف القبائل وجوه
كسراب الصحراء ، تتجه إلى الشمال والغرب والجنوب .
عرجون استقبلت ابنها البدوي ، جاء رجال القرية يتقدمهم
شابان أسمران طويلان عليهما لباس القرية في أعينهم سر البادية ودماء الصحارى .
هؤلاء هم أبناء عمومته .. .توجه أبو دعاس بحديثه
الى ابناء عمه سائل عن احوالهم قالوا : الساعة المباركة التي أتت بكم من الباديه إلى
هذه البلاد ، ألم يقل الشاعر :
يا عبيد غرّب والقرايا دعنك
على ديرة عرجون تلقى قوانينك
ضحك عبيد، قبلوا دعوته
ولم يغادر حسين و هواش ، أما حسين و هواش فآثروا البقاء على الرحيل
واستوطنوا القرية . كان ما يدفعه أهل القرية من إتاوة
يتركه عبيد لأبناء عمه لحمايتهم القرية من الغزو وغيره. أقبل فارس
عباءته كسحابة رمليه خلف ظهره تسبح فوق
كتفيه، نزل عن فرسه فاستقبله ناصر، رحب به.. إنه أحد فرسان العشيرة. سكب القهوة وجاء والده ، رحب به . واختصه
بجزور، سمع الفارس يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله انالله
وانااليه لراجعون، لقد توفي آخر رجل من الأيديان ولم يبقى سوى امرأة ، والمرأة لا
تحيي أصل وهي متزوجة من رضا ، والذي يرتبط مع الأيديان وأبيه جد واحد ، لقد ترك
وراءه إبل كثيرة وبعد موته نشب خلاف حول
الإرث بين أسر الجهيم ،لتجتمع الاسر أعطيت
المرأة حقها في أعراف البادية ، أما ما تبقى فسيوزع على بقية الأسر .وزع الإرث بين الجهيم
، قال رضا : المغدر و المودر لي فيه نصيب الربع
وافق الجميع ، فطن ناصر وأخبر والده أن عندهم بكرة منذ زمن طويل قد ألفت الإبل
فنشب خلاف من جديد لآن تلك البكرة قد ولدت حتى أصبح وراءها أربعة نوق ، فدفع أبوه
بجميعها الى المرأه رافظاً دخول الأرث بيته او توزيعها............
لم يأبه ناصر لذلك فقد مرت الأزمنة الغابرة أمام عينيه ،
مرت جيوش الأتراك وهي تمتطي البغال و تجر مدافعها ، ، جالت الطروش وعبرت القوافل
من خلال ذلك الخيط الأسود وعليه موشحات بيضاء ، قرأ بعضها وفك طلاسم البعض الآخر ،
وهاهو المهر يكبر ، الشهور تبعث به القوة وترسل في ناصر أحلام المراهقين وأحاسيسها
الشجية ، كانت الفتيات يراقبنه بأعينهن ، شاب وسيم يرسل ليلاً من الشعر الأسود وقد
فك ضفائره وتركها تسبح بحرية .
كان الهيام يتدفق من نظراته ولكن يرن في عينيه غموض وسر
يودن لو استطاعن كشف غطاء غموضه ، حب
استطلاع يراه قبل العشق ، قيد العبية على
ضفة العاصي لترتع بالمرج الأخضر ، وضع في رأس المهر الرسن أول بداية العسف
ثم
جلس على صخرة ودلا بقدميه بالماء يراقب الشمس ظهرت سحب
تلونت بلون ورود الديدحان بدأ يراها في الأفق ، خيل إليه أنها الحجارة عليها نبت
القريقش و غيمات تتلون بلون الشفق ، وقد سبحت مع السحب الحمراء والبنفسجية ولكنه
لا يرى نصب القبر .
بدأت الشمس بالزوال ، قال لنفسه "لو أنها توقفت
"، يقطع عليه حبل أحلامه طنين البعوض وتطفل البرغش ، لقد خرجت من بين غابات
القصب غيوم البعوض المتعطشة إناثها للدماء ، فك قيد العبية وعاد إلى البيت ، تكاد
الإبل تنفر ويطير صوابها من هجمات البعوض
، رأى حنشاً أسود – ذكر الأفعى – يقولون أنه ليس
ساماً ولكن الأفعى العدو الظاهر لبني البشر ، والعقارب و …. و الطمع أيضاً قاتل ولكنها الحياة . لا حياة بدون
غزو، لا حياة بدون مخاطر. ما سر هذه الترنيمة لقد تحدث كثيرا مع.... صديقه عسود ، ولكن الطمع
حبل التهلكة ، نحن نريد الغزو ، لما؟ أنا كل ما أريده موجود ، المال والإبل والخيل
والأغنام وتاريخ متأصل بوائل الطمع آه
الطمع الذي أنزل ذلك الغازي عن فرسه وترك سلاحه فانقضت عليه النسوة بالعصي وغنمن
فرسه.
ربط فرسه بحبل البيت والمهر يلازمه يمسح شفتيه بساق ناصر
فيحدثه: غداً تكون حصاني سوف أروضك بنفسي
ستكون صديقي ألا يروق لك هذا ؟ يشخر المهر يهز رأسه بغموض لا رافضاً ولا قابلاً
حديث صاحبه .قال له"من المؤكد أنك رافض تريد
الحرية ، لم لا تهرب وترافق الوحوش إنها فرصتك أم أن حنان العبية يكبلك ، نعم أيها
المهر إننا مكبلون بالعادات مجبرون في الطبيعة ، كذا هي الحياة.
وصل الربعة، يسمع صوت الربابة في مجلس أبيه إنه الشاعر
الأعمى، يحفظ قصص الأولين وأشعارهم. كانوا يجلسون بشكل دائرة حول النار ،
وتضفي إيقاعات النجر على صوت الشاعر وربابته أنغام كحب الخلود وصوت الشاعر الأعمى
رفيع لا تكاد تفرقه عن صوت ربابته . يتناول الدله يسكب القهوة للسامرين
فتهتز الفناجين ، يضعها بجانب النار
يزيدها حطبا فيرتفع اللهب يرسل دخانا أبيض خفيفاً يطرد البعوض .
يرى الوجوه بوضوح ، تقدم الوليمة للضيوف والشاعر، يمسحون
أكفهم بالرفة يفركونها بالتراب ويسكب الماء ثم يعودون إلى مجلسهم . يثني بالقهوة فتهتز الفناجين ، يحمل الزاد ثم يعود
متشوقاً لسماع صوت الشاعر صاحب الفطنة
عندما دخل ناصر أول مرة ألقى السلام قال له: أهلاً أبو المثنى، لقد تغير صوتك أصبح فيه خشونة الرجال
وها قد ظهر على لحيتك شعر خفيف، كأنه يراها، قال له ناصر: إن الله لم
يحرمك البصيرة. .
والده ، كان يحبه ولكنه يخاف عليه ، سمع والده يتحدث
يوماً هما ابناي الوحيدين وهذا ما قسمه الله لقد تزوجت الكثير من النساء ، أرجو من
الله أن يبارك لي في ذريتي . وقد انقرضت سلالة الأيدة من الجهيم وهم سبعة
رجال أشداء غلاظ الخلقة لا يجرؤ أحد على الاقتراب من حماهم ، ولاتراع إبلهم .
استأذن رجال النزل وأهالي القرية ، بقي الشاعر فسكب ناصر
الفناجين واهتزت بالأيدي ، جاء بفراش الضيف علق ربابته بالعامود الأوسط من البيت
وغطاه بلحافه . ذهب والده وأخوه إلى مضاجعهم ،
كان ينظر إلى السماء، إلى نجمته وقال لو أن لي جناحين
لصعدت قبالتك إني أحبك أيتها الجميلة، هل تعلمين بحبي وعشقي وهيامي ؟
عاد وجلس مكان أبيه اسند ظهره على الشداد ، أطلق عنان
فكره فأخذ إغفاءة قصيرة ورأى حجارة مبعثرة داثرة ، إنها بقايا قبر نبتت بجانبه
وعند رأسه ورود الديدحان ،
يفيق من إغفاءته وينظر إلى السماء فيرى القمر
قد ارتفع والمهر وقف عند قدميه ، يتذكر تشاؤم النزل من مهره ، عندما ولد مات عويد .
يتساءل : من يفسر هذا
الحلم ؟ لست في ضيق منه ، إنه مجرد حلم لا بد أنها رؤيا، إن هذه الرؤيا توحي لي
بأن هناك قبر موجود صاحبه ينادي، ليتني أعرف مكانه، ليتني أهتدي إليه. هل أحدث أحداً عنه . لمن هذا ، آه لو أعرف سوف أنحر
جزوراً وأقدم الليرات الذهبية لمن يساعدني في حل هذا اللغز .نام وأفاق على
دق النجر للبن و الهيل ناداه أخوه : أطلق مع دويشر عقل الإبل
اتجهت على جبل الرباطية حيث منابت الروثاء والشيح
والقيصوم ,سارعت الشياه خلف أخيه ناولته أمه
مزودة د الزويدي أعطاها له وعاد إلى العبية وقادها إلى المرج قيدها بسلسلة حديدية
أمسك بالمهر وضع الرسن واللجام قيد يديه وضع الخرج على ظهره بعد أن ملئه بالتراب
قال له لقد عصيت الوصية قلت لك أذهب حيث الحرية أما اليوم لا حرية إلا معي وقيل لا
تأخذ صديقاً إلا بعد عراك واني اخترتك صديقاً فلا تجزع لست ظالماً ولا جباراً .
بدء المهر يسيل
لعابه رفع رأسه جثا على ركبتيه ولم يحني
ظهره يقف ويسير يهوي لحظات ثم ينهض من جديد قال حاول ولكنك لن تستطيع هنا على هذه
الأرض لا توجد حرية ........................
الحرية المطلقة في الأفق خلف الشمس المحترقة
بدأ المهر يتصبب عرقاً والتصقت التربة الحمراء على شعره
الأملس اللامع، كان جلده رقيق يكاد يتشقق . أنزل عنه حمله وترك القيد ، في طريقه
يمر بمزارع الذرة ومقاثي البطيخ الاحمر والقثاء ينتقي منها، انتقى كبراهن... أقبل
أصحاب الزرع الذين يعرفونه و أصدقائه القوا التحية وتعانقوا وجلسوا القرفصاء .شقها
فتصدعت وجدها حمراء كدم الغزال الذي اصطاده في النقعة عند سور خرب تناولوها وغسلوا
أيديهم في ساقية الماء وأخذوا يتحادثون
كان صاحب المقثاه يتناول حبات البزر الأسود مازحه وقال
لقد أمضينا الصيف والقيظ هنا سوف نرحل إلى الحماد إلا ترافقني وتترك البعوض وجنود
الأتراك وحلفائهم الباشوات، سوف ترى في صحرائنا الحرية وترى الظباء كل جميله تزيد
عن خمسين غزال ألا تريد الحرية؟
قال القروي :إن
الوحوش كثيرة والضباع فاتكة. قال لهم: أقبلو معي. فاعتذروا وسارو باتجاهين
متعاكسين. قابل في طريقه عسود الذي قال له الاتريد الغزو ياناصر ليقول له عليك أن
تبيع ذلولك وتشتري مهراً كذلك المهر هل
تريد ان تغزو ؟
إن أقرب الأعداء
وراء شيزر وأبعدهم خلف البحر فاختر فرساً............ نظر عسود إلى ناصر فقال :
لدي ذلولاً يسابق الخيل .
سار إلى بيته ألقى التحية وجلس أمام أبيه ،سكب له فنجان
قهوة ولنفسه نظر إلى وجه أبيه يرى في تقاسيم وجهه لوحة من السنين فيها من التعب
والهموم وجرح الأيتام وبؤسهم وفروسية البدوي وقوته، إنه رجل عصامي
لقد نهبت إبله
مرات كثيرة وأعادها .. كان أبوه وحيداً لأختين لم يرضى بأن يبقى تحت الوصية ربما هذا ولّد فيه القسوة وعدم الثقة إلا
بنفسه.
ورأى في وجهه الدهاء والكرم والشجاعة، كان يعتز بنبل أبيه لقد رفض أن يدفع ناقة عندما
جاء ه العبيد وهم في نزل الباردة قال العبيد: إننا أرسلنا من قبل سيدنا وعلى كل بيت أن يدفع بناقة. اتكأ على
نثيلة من الرمل قال لهم : متى كنا ندفع لغيرنا نحن نأخذ ما نريد ،القرى تدفع لي
والعشائر. فولى العبيد مدبرين أخذ العبيد ما أعطاهم بقية النزل أرادوا أن يلوموه
لكي يدفع لكنهم أخفوا ذلك.
عاد العبيد وقالوا :رفض ابا دعاس أن يدفع ووبخنا وكاد أن
يفتك بنا .
كان االسيد قد جمع العشيرة ، وقال : إن من يضع هذا الوسم
( IH ) العامود والشاهد على الفخذ الأيسر عليه أن يدفع ، ولو كان وسم
الجهيم ووسم العشيرة .عندما جاءه الخبر قال أبوه : لن أضعه طالما فيه ذل ، سأترك
إبلي غفل لا وسم لها أو أختار وسماً أو شارة لها وهي معروفة بدون هذا أو ذاك .
أعجب به زيد ورشيد وربيع ، قالوا له الوسم لا يبعد دم
ولا يقرب عدو .
مرت الأيام أمام عينيه فيها حوادث الدهر ونوائب الليالي
وجحود البشر وشموخ الجبال .
قال له أبوه غداً تذهب إلى قرية المنزول ، إن عائلة
صديقي عهده في عنقي بعد مقتل أبيهم . إني أساعدهم ما دمت حياً ووالدهم له معروف
عندنا .... نظر والده إليه وكأنه قرأ تساؤله فقال : نعم يا ناصر ، لقد تعرضنا لغزو
من عشيرة السبعة وكنا حينها لا نزيد عن خمسة عشر رجلاً ، وكان هذا الرجل ممن تصدى
للغزو ولكنه قتل في المعركة مع بعض الاقرباء منهم عشوي الوقيان وكسرت ساق حمد بن
راشد ولديه أبناء ، فخذ هذا الجراب وادفعه إليهم .
طلب العبية من والده فأجابه : لك ما شئت وإن شاء الله
عندما تعود سالماً تأخذ المهر وتبدأ بترويضه .فرح بهديته فغداً سيكون حصاناً يسابق
الريح – لا بد أنه سيحلق بي في الأفق عند عشيقتي السماوية ، عند ساحرتي البتول -
أحس بأنه يملك السماء والأرض أحس بالحرية المطلقة رآها فوق الكون الواسع رآها على امتداد الصحراء .
خرج من البيت ونظر إلى السماء ، وأمسك حفنة التراب
ينثرها عبر النسيم ، فك لجام مهره وفك قيده . وضع الخرج على العبية وامتطاها يلكزها
، أقبل بسرعة البرق .
، يكاد رأسه يدق سقف السماء لفرحته ، حزم منديله وراء
عنقه وتحت إبطيه ، ربطه على ظهره وترك شعره يسبح في الريح لا يريد أن تقترب
المسافة يريد أن يقف الوقت وهو يسبح في نشوة الصبا .
اقترب من المنزل ، شد عنان العبية بقوة الشباب وأوقفها ،
مازال صهيلها يشق سكون الغروب وفي أذنيه
حداء الرعاة ورغاء الإبل ، رحول دويشر والناقة الوضاء ، يقرب إليها البو
فتدر وترغي وتحلب النوق ، ، يمسح جبين العبية ويلامس شفتيها ، فترفع رأسها شموخاً
ثم تحنو عليه .
سهر معهم ونام بإغفاءات متقطعة ، استيقظ قبل أن تحرك عاملات
البن . أخذ الجراب ،ربط المهر وركب العبية ، وطار إلى ذلك الشفق الأحمر ، تلوح له
ورود الديدحان، ولكن تلك الغيوم ، لم تصطبغ بلون الشفق بقيت سوداء كحجارة القبر
التي نبتت عليها القريقش الأسود والأخضر والرمادي .
يشد عنانها فوقف ، التفت إلى الوراء رأى المهر يجول
بعصبية يحاول أن يقطع الحبل المغزول من الصوف والمجدول ، لم يعد ينظر إلى الأفق
.فقد بزغت الشمس وأرسلت خيوطاً من الوهج اللاذع .
مر بالقصير فرأى جنود الأتراك
كان الجنود يتجنبون التحرش بأبناء عشيرته ، يغضون الطرف
عنهم ، لأن أبناء عشيرته يحملون سلاحهم في المدن والأسواق ، وتمنحهم السلطات
التركية الليرات الذهبية ، لا يسجن بدوي ولا يحارب إلى جانبهم
حث العبية على المسير قائلا لها :تحت أقدامك تقدح النار
، مسح عنقها بحب لايحمله الا فارس . لكزها برفق ، ثم مر بفلاحين أنهكهم التعب ،
تحمل نساءهم أطباق الطعام .
وصل إلى القرية التي كانت في الجانب الشرقي من التل،
وقبل أن يدخلها وجد قبوراً وضع عليها أعواد الريحان ، إن تربة التل سوداء وكأنه
احترق بتنور .دخل إلى القرية وسأل عن أبناء رمضان صديق أبيه لكي يسلمهم الأمانة
ليعود . تمر عليه السحب والطيور ، ويمر بالأودية والتلال .
يدفق وهج الشمس المحرق ، ، لم يتلثم عن شعاع الشمس بل
توجه إليها فأحرقت وجنتيه ، استدار جنوباً عن غير طريقه، ومر بقرية صغيرة فلما
شاهده الأطفال هربوا عن الطريق فخرجت نسوتها ووقفن بالأبواب ، يحدقن إليه بأنظارهن
نظر إليه الفلاحون ، كانوا من الذين يعبدون الرجال من دون الله ، يترقبونه
بنظراتهم كأنهم يستعجلونه بالخروج من القرية ، يحثونه بالخروج ولكنه لا يأبه .
سار متمهلاً كأنه يسير على حبات قلوبهم ، ورأى شابان
أبيضان يتحدثان ويتمازحان ، فرمى عليهما التحية ورداها باحترام ، قالا له : إننا
نحسدك على حريتك، فأجابهما : لا يوجد في الأرض حرية ، إن الحرية حرية النفس ،إن
الحرية هناك في الأفق خلف الشمس المحترقة بلون الشفق ، أمسك أحدهما برسن العبية
،لأنه أيقظ بداخلهما الأمل ، والحلم المكبوت .
إنها ثورة على القيود ، لم يتخيلا أن عابر سبيل يبعث
فيهما الأمل ، بعد أن أصبح سراباً ً قال لهم : وداعاً .....
تجد العبية بالمسير فقال لها لم العجلة ، أم أن هناك
ابنك يناديك ، هل تسمعين الإيحاءات ، عندما تخرج اليرابيع من جحورها ، لابد أن هناك زلزال أو سيل جارف ،
لا بد أن أذنيك القصيرتان تسمعان تراتيل الملائكة ، ومساءلة الموتى
أين ذلك القبر ، وتلك الورود الحمراء لم يطأها أحد ، لم
تذبل عبر السنين ، لم يقلب حجراً واحداً ، بقيت كما هي . والقريقش على الجهة
الشمالية من النصب ، يا الله لم يتراءى لي هذا ؟
يرخي العنان للعبية يترك لها اختيار الطريق فتجتنب أشجار
الشوك والحجارة ، تسير على جادات الإبل . غربت الشمس وحملت النسمات قطرات الندى ،
فابتلت ثيابه . سمع الأذان ينادي بوحدانية الخالق الأبدي . وصل البيت فاستقبله
والده سائلاُ عن أحوال القرية وأبناء صديقه . فطمأنه عليهم وأطلق المهر من رسنه ،
جال بحرية وعاد إلى أمه يحتكان الاعناق كأنهما يتعانقان ، همهم المهر إنه يهنئها
بسلامتها ربما ويعاتبها لم تركته .
تحدث الى المهر ، أأحسست بالوحدة اليوم ، غدا لن ترى
أحداً سواي .مرت الأيام على ناصر وبدأ يقسو على المهر ، يثقل عليه الحمل ، يزبد ويشخر ، يرفع رأسه يجثو على ركبتيه ولكن
لم ينحني ظهره ، يزيد عليه تارة وبشفق عليه تارة أخرى ، أنه يداعبه ولكنه يستعجل
العمر .
بدأت السحب الخريفية تهب ، معه
ا نسائم الشتاء الباردة .
أول زخات أيلول
جاءوا بالزمل ،هدت البيوت وحملت ، ركبت النساء بأكوارهن
،سارت الأغنام ولحقت بها الإبل . تواردت على عين مهين ذات الكروم ، جاور أهلها
الكرماء عدة ليالي .تبادلوا العزائم جددوا الرحيل إلى المحسة ، بئر عذب المياه على
سفح جبل كثير الكلاء .
تجول والده بالمراعي ،"هنا سنقضي الشتاء "،
اليوم الأول للمهر شد عليه السرج وحزمه بقوة حتى لاعب يديه بالفضاء وصهل ، وضع
اللجام ورفع رجله اليمنى في الركاب فاستدار المهر ، تمكن من ظهره لم ينحني المهر
أبدا .اتجه ناصر به نحو الوادي ، أطلق له الحرية بالجري ، سبح وقدح الصوان حتى
ليبتعد خلف الهضاب ، أعاده يسارا فخف جريه ، قال له " لقد اغتسلت بالعرق
وأصبح منخريك كفنجاني قهوة ، ألم اقل لك سوف نصبح صديقين". ، نعم إن الأصيل
لا يترك صاحبه " ما زلت ابرك ، أطعمك الزبيب والتين المجفف ، لا تأكل من يدي
وترعى الا خير المنبت.بالله قل لي أتريد بديلا عني . اقترب من البئر " لا بد
انك عطشت لن ادعك تؤذي نفسك لان الورد على الظمأ يورد التهلكة " .
بدا أخوه يشكو ألماً في ظهره ، قال أبوه " يجب أن
تبقى مع القطيع يا ناصر لترعاه ، " أبوه يعرف انه يكره الرعي ، لقد رفض الرعي
مرات عديدة ، وقد تغنت به فتيات الحي .صعد على جبل المحسة ، قابل برأس الجبل رجلا
من النزل ، قال له " أراك منزعجا فما بالك " أجاب " لا أريد أن
أرعى القطيع أريد أن أروض مهري". ابتسم
" أنا أسدك عاما كاملا ، فلي شرط على والدك " ذهب الرجل للنزل واتفقا
.
وقف ناصر على رجم الحجارة ، نفض شعره راقب قطعان الإبل
والطيور المهاجرة ، ابتعد عن الرجم امسك بعود ، خط على الأرض ورسم ورود الديدحان،
رسم القبر .اختط نصف دائرة .
مر الشتاء بقسوته ، ولكن لم يفارقه الحلم
( حجارة مبعثرة داثرة ، إنها بقايا قبر نبتت بجانب القبر
وعند رأسه ورود الديدحان ) قابله عسود " إن ذلولي أصبح يسابق الريح ، يتحمل
المسافات ويرتدي منديلا ابيض من الزبد المنفوش ، وأنت كيف مهرك هو حصان ، لقد
رأيتك تسابق الريح " نظر في عيني عسود كانتا واضحتين لا يلفهما غموض ، قرأ
فيهما أنهما تريدان كسب أي شيء وفي ابتسامته شيء من الدهاء .
يسيران ويقصران الخطوه وعلى مشارف النزل ، يتذكر ناصر
حلمه .دخلا الربعة ، فوجد والده يتكئ على نثيلة من الرمل ، يقابله صديقه صلبي. سكب
ناصر لهما القهوة وناول عسود فنجاناً ، اهتزت الفناجين فوضع الدله بجانب النار
،يضع الحطب فيرتفع اللهب ثم جلس بمحاذاة أبيه .
كان صلبي يتحدث عن موسم الربيع وخبراء الصيقل الممتلئة
ماء ،
كان قد ذهب ثلة من الحي يستطلعون الماء والكلأ في تلك
القفار حتى وصلوا البطمي ووجدوا أن غدرانه قد امتلأت بالماء ، وفي طريق عودتهم
مروا على خبراء حدية وأم شرشوح فوجدوهما مملوءات . وأعشاب الحماد تبكر في
الربيع." غداً الرحيل ،ومع بزوغ الشمس . كانت الأغنام قد سارت وحملت الإبل
وأمسكت بأول خيوط الشمس وعليها أحمال البيوت وحلتها .
كان ناصر على ظهر حصانه بجانب الإبل متوشح بحزام من
الجلد يحمل طلقات ، قد أخذ على صدره شكل خطان متقاطعان عند الصدر وكذا على الظهر
موصول بحزام على الخصر ، متهيءاحتمال الغزو . تأخر والده عن الرحيل اتجه شمالاً
قبل توارد الإبل خبراء الصقيل ، وقف على منيفة وعلى يسارها نزل عن العبية ، لحقه
ناصر ونزل عن حصانه .
اقترب من فرس أبيه ، مسح جبينها ولامس شفتيها ، رفعت
رأسها شموخاً ثم انحنت عليه . نظر في وجه أبيه كانت تقاسيمه تحكي على مأثور قد مضى
، مسح الغبار عن مجموعة من الحجارة جمعت وتراكمت فوق بعضها ، لم تتخذ شكل قبر .قال
لأبيه " هل هذا مقام لصديق ؟"
" هنا قتل رفيقي ،وهنا قتل بن وقيان وهناك كسرت ساق حمد وهناك قتل
الرجل الذي ترك سلاحه وفرسه وهشمن النسوة رأسه " .
نظر أبوه إلى الأفق وقال " في هذا الأفق يتبدى
التاريخ ، لا بقاء لحي إلا الحي الوارث ملكه ، هذه الدماء كانت لي عوناً على
استرداد إبلي ، كنت وحيداً. لقد أخذت الإبل وكان أخوك صغيراً أتاني باكياً فقد
فاجأه الغزاة ، من بين تلك الرابيتين . قلت له لا تبك عينك ، غداً سترتع إبلك هنا
بهذه الأشجار بإذن الله . إن غداً أقرب من غروب الشمس هذه .
قلت لرمضان إني لا أخفيك سراً يجب أن أسترد الإبل من
السبعة ، وكما ترى ليس معي فارس واحد ومعاملة الند بالند ، كما أخذت أستردها ليس
الغزاة ببعيدين .
شدينا السرج وركبنا الخيل ، شمرنا السواعد وتوجهنا إلى
الشمال حيث نزل سالبي الإبل ، كانت حجارة الصوان تقدح تحت سنابك الخيل ، أرخينا
الأعنة وتركناها تشاكس الريح . وصلنا مع اول سويعات المساء، تلك مبارك الإبل ،
أطلقنا العقل من أيديها وجهتها إلى الجنوب .
بعد ساعة من الهجيج أوقفتها وتوسمتها وإذا بها للدخيل ،
تجنبت كل الإبل وسلبت الدخيل ! كان الدخيل شخص من قبيلة الفواعرة قد قتل ابن عمه
ولجأ إلى السبعة .
قررت أن أعيد الإبل إلى صاحبها فهو لا ناقة له ولا جمل
في سلب إبلي . أعدتها الى مباركها
تجولت بين الإبل وأطلقت عقلها ، ثم وجهتها من جديد إلى
الجنوب . وأخذنا نطاردها ولبست العمائم البيض من الزبد . اقتحمت نزل آخرين
فأوقفونا " أنتم غزاة ؟" قلنا " هذه إبلنا رددناها " قالوا
" تبيتون الليلة وغداً تنطلقون ."
ولكي نذهب الشك عنا عقلنا الإبل ، وكان معنا حوار قد
بقيت أمه فما هدأ عن الرغاء ، قال بعضهم " هم غزاة وهذا الحوار تركت أمه
" عقلت يديه ورجليه فازداد رغاؤه .قبل الفجر بساعة أيقظت صديقي وأطلقناها
بهدوء وتركنا الحوار، كان رغاؤه هو الدليل بأننا مازلنا في مضاجعنا عند القوم
.وقبل أن ترتفع الشمس كان دعاس يرعى إبله ،هذا ما أعطاه القدر لصديقي ولا راد ولا
مفر من القضاء " .كان يجول في رأس ناصر سلسلة متصلة من التساؤلات " لقد
كان عهد أبي أنه كلما مر بمسقط صديقه زاره وسلم عليه ، قرأ الفاتحة ، تذكره كأنما
يراه وربما حديثه في مكنونه و لو لم أكن أعلم ، من المؤكد أنه أصبح في غياهب
النسيان ، وهذه الأرض هل أخفت آثاراً كثيرة أم السماء ؟ إنني أحس بأطياف مرت
وارتوت من هذه الخبراء ، أناس لا أعرفهم يرتدون ملابس لا لون لها ، هؤلاء لا
أعرفهم ربما هم القرشيون وقوافل أذينة وجيوش زنوبيا وتجار الأنباط ، ربما يمنيون وآراميون وفينيقيون وبني
هلال وقبائل عنزه وبكروتغلب ابناء وائل
" ، أحس بأن روحي تمتد في
القدم ". ارتوت الإبل وغداً ستلتحق بالمواشي ، أنزلت الأحمال ودقت الأوتاد ثم
أصبح لنجر القهوة ضجيج . تجول ناصر في النزل ، لقد أصبح للازهار عبير زكي، لم تكن
كل البقاع خضراء لأن بعضها مرتوي والبعض الآخر مجدب ، صار أسيرللرياض الجميلة ولكن يأسره سراب الحلم العاتي الذي يجرفه كوادي
مقاط الذي يجمع مئة وادي ووادي ، يسلبهن ماءهن أو أنهن يرمن إليه ، ما أثقلهن.
عهد على نفسه أن يزور دوحة الديدحان يريد أن يغطيها
بعباءته كي لا ترعاها الإبل والمواشي .أصبحت الدوحة مركز أحلامه وانفتاح قلبه إلى
ما وراء الخيال هناك خلف الشمس المحترقة في جبين نجمة الزهرة متصل معها موحدين
الروح ، يصعد إلى الهضاب العالية فيجد الديدحان بكل مكان يجد حجارة مبعثرة داثرة ،
بقايا قبر نبتت بجانب القبر وعند رأسه ورود حمراء
هذاقدري
هناك لاح بيمينه في الهواء و نادى بصوت شجي عالٍٍ ٍ ،
تلجلجت أضلاعه وأخذت تجاوبه الذئاب ... يا الله ..... جثا على ركبتيه " إنه لي ، أحسها من أعماق روحي . بلى لا أريد هذا الحلم
أن يغيب، همس للورود وابتسم.
كان أبوه قلقاً عليه " ابني ناصر يلفه الغموض في
نظراته قوة وثورة وجمال وأمه الحنون تحضنه وتعيد جدل ضفائره السوداء الطويلة
والجميلة , تبكيه وهو حي" ذرفت دموعها على وجنتيه ، أحس بأنهما جمرتان سقطا
من نيزك محترق بردتا على وجنتيه فأصبحتا حبتين من البرد .
تركهما على خده لم ينظر إليهما ، لاح بوجهه للحصان فرأى
في عينيه السوداوين الصافيتين لون السماء فيهما غيمة بيضاء وحيده’ قد استقرت في
نصف الكون . تجمعت في جفنيه قطرات الدمع لم يبح بهما إلا لحصانه ، قال "
لاتجزع ، إن الأخ يحمل أخاه ، إن سقط ينصر أخاه يساعده ويحميه حتى من نفسه ، أنت
صديقي والآن أخي ، آه أيها الحصان ، لقد تمنيت أن لي جناحين أجوب الكون بهما بحرية
وأيضاً تمنيتها لك ، ألا يقال أحب لأخيك ما تحب لنفسك ؟ لا يهمني ما يقال عنك
طالما أنت معي ولا تهتم لنظراتهم المتشائمة جاء بحبات الزبيب من البيت فناوله ومسح
على جبينه كأنه يمسح على جبين الشمس وسطح البحر همهم المهركأنه عاهده على امر ما
؟، من هناك قبالته يمرن فتيات ينظرن إليه ، تمر عليه أحلام المراهقين وأحاسيسه
الحلوة الشجية ، كذا أرسلن حباً من عيون المهاة وسهاماً من أهدابهن و لم يستطعن
خرق قلبه .
لم يكن قلبه من حجر ، لكنه لا يريد أن يرتبط قلبه بمخلوق
، لأن مركز حريته وأحلامه ( القلب) لم يغمره حب الفتيان . كان يتمنى أن يغرق فيه
كما يخبره أصحابه ،من ولع العشق وحب الحياة ويقولون أن كثيراً من الفرسان انتصروا
في المعارك ولكنهم عبيد بأيدي النساء ، لا ولن أتصيد ولن أدوس الجماجم والقلوب ولن
أنظر فقط إلى قلبي ومتاع نفسي ،
ألقى السلام " أهلاً عسود ، هل تعلم أننا من عالمين
مختلفين ولكنني أحبك ؟" قال عسود " ربما الرعب وبعد المسافة بينك وبين
المخاطر ، وأراك تسكن إلى الوحدة ." رد عليه " لقد اجتازت كلماتك حدود
قلبي ، إن الرعب حين يدرك الموت الجبان ، فينفر ويهرب يتخبط في الظمأ عند الظهيرة
ولا يسمع إلا قفزات قلبه بين أضلاع يربوع ." قال عسود " والله ما قصدت "
قال ناصر " لقد أحدثت في النفس جرحاً وقد قلت الفرق بين الاثنين ، وأنا لا
ألومك " .
أخفت الشمس آخر خيوطها وأرسلت شعاعاً أحمر عكر صفو
هدوئها ثغاء الشياه ورغاء الإبل ، كأن مخلوقات المغيب رفعت أكفها ضارعة للخالق
الأبدي تسبحه . دخلا الربعة وتناولا حبات التمر مع فناجين القهوة المطيبة بالهيل
والمعطرة بالزعفران . أطلت من الأفق العشيقة نظر إليها بوله ، لقد كانا متصلين
موحدي الروح . قطع خلوته الروحية دويشر "هذا الجمل الهائج ، انطلق إلى قطيع
أحد الرعاة من الحي ، كاد أن يمزق جملهم لولا أن ضربناه بقوة حتى تركه".
جلس دويشر بجانب النار يفرك كفيه يأكل التمر ويشرب اللبن
، كل لحظة يخطف بصره من بين الحضور إلى
نجمته ليرى فيها آلاف القلوب . مرت عبر خيط أسود عليه موشحات بيضاء يقرأ أشعار
وأحاديث وطلاسم كثيرة ما استطاع تفسيرها ، عهد لها بالوفاء بنظرة تسمو فوق البشر
حتى ولو كانت نظرات متناثرة ولكن لن يطويها الغيب في عالم النسيان .
أقبلت وجوه ، ولغة غريبة ، قدم لهم ما يفرضه الواجب على
المضيف ، كان متجاهلهم من أعماقه ومع هذا يجد فيهم روح التوحيد للخالق الأول لا
قبله شيء والآخر لا بعده شيء ، هو الخالق الأبدي سبحانه .إنهم صغار كما يراهم كذرة
يراها في فج الرواق ، تسقط عليها أشعة الشمس فبانت ... إنهم جنود السلطان خاقان
البرين والبحرين وخادم الحرمين الشريفين عماد الدين والدولة ، صاحب الأقاليم
والأقطار مدمر الأعداء الكفار .
باتوا تلك الليلة في ربعتهم ، واستيقظوا على ضجيج النجر وعلى رائحة البن ، ونفح الهيل . تناولوا
إفطارهم وولوا على ظهور البغال ، يرطنون بلغة لا تألفها أذنه . ليس فقط ذلك الأعمى
يملك الفطنة والحدس " أحس بأن ذلك الرجل الذي يكسر بعينيه إلى الأرض عندما
أنظر إليه ،أنه غادر. لأن عينيه تحكيان الخيانة والغدر ، إنهما عينا حرامي أليس من
التشاؤم ما يقال إذا أتاك رجل أفرق الأسنان أبرق العينان لا تأمنه . إنما هذا
مكسور العينين تكاد تخرج عينيه من المحاجر ."
نفض عنه حدسه كأنه ينفض الغبار عن منديله .اقترب من
حصانه ومسح جبينه ، رفع الحصان رأسه شموخاً ثم حنا عليه . نظر إلى الأفق هنالك
ابتدأ الحلم وابتدأ التاريخ ، هنا على هذه الأرض يسيطر التقليد ، لن تصعد إلا إذا
نسيت بأنك سوف تهوي ، ولن ترتفع إلى ما صعدت إليه
حتى تكون من الأوابد البائدة .التقليد وعدم الخروج عن المألوف موجود على
جبين البشر فقط ،انما للنفس خباياها هناك الجموح والصعود اللامتناهي إلى كشف
المجهول ،
" أصبحت حياتي مشتتة بين الحرية المطلقة والتقليد ،
بين حب السماء ووفاء الأرض ، عندما تلتقيا تنبت ورود الديدحان . تلك تسقي أوردتها
وهذه تثبتها وتغذي جذورها " . وضع قدمه بالركاب توجه إلى وجه الشمس ، وقف على
دوحته وباح لها بأسرار النفس الخبيئة ،ورأى أكفها الحمراء الضارعة إلى رب السماء فالضراعة في كل مكان ، كذلك وجد
نفسه فقال " لن أصبح لسراب الحرية أسير ، هل الحرية قاتلة ! نعم ، إنها قاتلة
" . اذا لم تمتلكها ، يطارده حلمه حجارة مبعثرة وداثرة ، إنها بقايا قبر ينبت
بجانب القبر وعند رأسه ورود الديدحان . مازال
تفسيره حلم يراوده ، و في خبيئة نفسه يبقى الإحساس المبهم .
صدحت أم سالم بأنشودة الربيع الخالدة ، إنها تعبر عن
عودة الربيع . ترتفع الأنشودة إلى كبد السماء وتهوي كأنها جلمود صخر وقبل أن تصطدم بالأرض تمد جناحيها وتزغرد
بأهازيج الربيع الخصب .وبتغاريدها تخبر كل من يجاورها " هنا بلادي ، هذا بيتي
" وكذا تغازل أخرى لتلفت أنظار الذكور ، إنه حب التناسل وسر الخصوبة لدى
المخلوقات .
نظر بعينيه السوداوين الواسعتين إلى ثلة من الخياله ،
يراهم عن بعد . يلكز حصانه إنهم جنود السلطان ، يرونه عن بعد . يسدد بندقيته ، كان
يعرف أنها لن تصل إليهم الرصاصة .أطلق النار فوقفوا تلتف البغال على بعضها ،
كانوايتجهون إلى تدمر . اندفعوا باتجاه النزل ، حال بينهم وبين النزل ، لم يكملوا
مسيرهم ، بل عادوا أدراجهم إلى خاقان الشام .
كان يعرف أن هذا قد يكلفه كثيراً ، قد يجردله حملةُُ ُ
من الجيش لاعتراضه جنود السلطان خاقان البرين والبحرين وخادم الحرمين الشريفين
عماد الدين والدولة مدمر الأعداء والكفار .
هو لا يعرف لم فعل هذا وما الدافع إليه ، ربما خيل إليه
أن ذلك الجندي الذي يغمز بعينيه إلى الأرض ، والتي رأى فيهما الخيانة والغدر ،
بأنه معهم أو ربما أراد أن يخبرهم أن هذه الصحراء له ، وهذا الحصان قلعته ، وهذه
الرمال دمائه . " إنها صحرائي ، إنها
حريتي ، نعم حريتي المطلقة ،و امتداد روحي ومركز قلبي " .
ذهب ناصر إلى أخيه وحدثه بما جرى ووصفهم بالجبناء
،أرادوا أن يلتجئوا بالنزل فلم يقتحموه . قال أخوه " ، والله لن يهتدوا إليك
أو إلى النزل بإذن الله ، ؟ لقد رأيت ما
بين اليقظة والحلم ، رجال لا أعرفهم ، إنما تشرق الشمس من جباههم بنور يشق الظلمات
"وهم يقبلونك .
ان للبشركرامات او هي الخوارق البشرية .
تمر الأيام أمام عينيه عبر خيط أسود عليه موشحات بيضاء
يقرأ بعضها ويحاول فك بعض طلاسمها .و تلك الدوحة أصبحت مركز أحلامه وقمم الجبال
أنسامه ، يرسم الحجارة المبعثرة ويختط نصف دائرة وعن يمينها يرسم ورود الديدحان ،
ينادي في الفضاء تتلجلج أضلاعه ، تعوي له الذئاب
.
يقطع عليه صديقه خلوته السرمدية وتجتاز كلماته حدود
القناعة ، يلقى على مسامعه " الطبيعة للأقوى ، ولا تنتقي إلا الأقوى ولا تبقي
إلا الأدها ".
يتحدثا عن العشق ، إن كلمات صديقه لم تتعدى أذنيه ، لأن
الفتيات لم يستطعن خرق قلبه ، لم تقتحمه الأعين لم يدخل مع أنفاسه حب الفتيات ،
إلا تلك المستحيلة السابحة في الأفاق . و تمر عليه أحلام المراهقين ، وأحاسيس حلوة
شجية ، لقد رآه في أعينهن ولكنه ينفضه كغبار عن منديله .
"هذه الأرض سوف تبتلع كل شيء ، الماء والشجر
والإنسان ، سوف تخفينا بل ستطوينا في غياهب النسيان وهذا التراب انما أجساد بشر
طحنتهاالسنون لتذروها الرياح ، من هم العابرين
من هنا؟ ربما قوافل أذينة وجيوش زنوبيا وجحافل الروم ، ربما تجار وملوك
الأنباط والآراميون والفينيقيون ويمنيون وقرشيون وبني هلال وقبائل عنزه وبكروتغلب
ا بناء وائل . هذه أطيافهم تسبح في السراب ، يتصل السراب بالسماء وكأنه البحر ،
ولكن لا لون له ، ولا رائحة . من الذي يجري ورائه ؟ ربما الطمع . الطمع ! الذي
أنزل ذلك الغازي عن فرسه وترك سلاحه فانقضت عليه النسوة بالعصي ، قتلنه وغنمن فرسه
تمر الليالي ويولد هلال ، ويكتمل بدر ويأفل،ثم يغيب في المحاق. يستمر في مغازلة عشيقته
السماوية ، إنها لم تبهت بل تزداد حسناً وجمالاً ورقة ، ترسل سحراً خرافياً تأسره
وتبهره انه يبعث لها رسائل مليئة بالحب كحب الخلود
وشمس الأصيل تلونالسحب بلون ورود الديدحان
والبنفسجي
والرمادي كلون القريقش على حجارة مبعثرة
إنها بقايا قطع السحاب التي لم تصطبغ بلون الشفق التي خلقت في نفسه غموضاً
كغموض الغيب . وضيقه بصعوبة الانتظار والحدس الخفي يتجاوز الزمان والمكان ، يندفع
خلف التاريخ يقابل جده الكبير ، يرتدي عمامته . يضع يده على قبضة سيفه ورمحين
رأسيهما يعكسان وهج الشمس ، مكبلان على جانب
سرج فرسه كأنها شقة الألماس او كندافة قطن بيضاء . وجده وحيداً كجبل في
صحراء يطاول السماء .
تمر الأحداث أمام عينيه يسمع زغاريد الفتيات وصليل
السيوف .تجز هامات الرجال ، شكت الرماح في
الصدور وهشمت الدبابيس الرؤوس ،فاندفعوا بين كر وفر تنادوا بستر الجهامه . تغنى الحي فيه :
غرو ٍ نشدني داعج العين
يسئل عن اطرف الجهامــى
عقل زرق بالرمح زرقين
من فوق المزوي والعمامـى
ناسف على متنه بريمين
هذاك شوقك يالغلامى ارفعي الصوت يلي
تناديـن
وين بن عساف ستر الجهامى
ياستروايل
والمضاعين
نشمي وربعه نشامى
يرى الخيول تفر بفرسانها ويتجزؤها ويذهب بهم الرعب كل مذهب . ولكن ماذا
ترك له الدهر بعد رئاسة وكبرياء وانتقام لأمور جسام وقصر بناه له التدمريون في تلة
على مشارف المدينة ، ودرج يصعد عليه إلى مضافته . يرى من خلال نوافذه كل من يدخل
المدينة ويخرج منها .اغتيل جده غيلة ، هشم الدبوس رأسه ، وخضب دمه الدرج ، تبكيه
الظعائن . تفر زوجته بابنه الوحيد على فرسه . يغادر محبيه الصحراء التدمرية
ويقتحمون أحراش لبنان ويقيمون فيها أربعة عقود ثم تعيدهم أصوات الدماء ، ووشائج
القربة وحنين البادية ، وصفاء الصحراء الواضحة والبسيطة المتجردة .هذا ما يعطيه
القضاء لبني البشر ، لكنه يراه شامخاً يطاول السماء بغاربه، يرسل في نفسه الثورة
والقوة ويزداد غموضاً . الحدس ذلك الإحساس
الخفي وذلك الرجل مكسور العينين ، إن عينيه تحيكان الخيانة والغدر وتحكيانها
نظراته المتلصلصة ، ما بين الفينة والأخرى . وبندقيته كدبوس رجل أخرق ، يلوحها في
الفضاء ويتركها وقدتقع على رأسه فتهشمه .لقد قتل غيلة ، وهل الدهر يعيد نفسه أيضاً
؟ قاتله قتل غيلة على يد رجل مثله،. يعود من الماضي بعد أن تجاوز الزمان والمكان ،
يمسح جبين حصانه ويضع رأسه على عنقه ، أحس بالتعب ، إنه منهك من أعماقه .يلفه ذلك
الخيط الأسود وعليه موشحات ذات طلاسم مبهمة .
اتصل الشفق بالغسق ، دخل الليل وخرج دون أن يستأذن ، قطع
السكون بينهما ثغاء الأغنام وصهيل الخيل ورغاء الإبل . والحادي يحدو لإبله لينفض
وجه الليل عن هضاب الحماد ، غردت الطيور وصدحت أم سالم ،ارتفعت في كبد السماء وهوت
، إنها آخر تغاريد هذا العام الخصب يعود من خلوته إلى بيته ، يرفض الرعي ، في نفسه
جبروت .
يزيد ناصر من تدريب حصانه بقسوة ، يجمح به فوق الأودية ،
يقحمه الصخور ، كان فوق الامتحانات ، ينادي في الفلاة تتلجلج الهضاب والأودية .
ذبلت ورود دوحته ، نثرت بذورها واختفت في الأرض . عاد
إليه حلمه ولم تذبل وروده ، إنها بقايا حجارة مبعثرة داثرة نبتت بجانب القبر وعند
رأسه ورود الديدحان ، كلما أفاق منه يحس بشوق وحنين وأنس المجالس وسمر العشاق وهمس
الهواء لرمال الصحاري ، في مكنوناته وذاته .
أمسك بيده بعود رفيع ، رسم ما رآه ، اختط نصف دائرة .
تهب رياح أيار تقتلع بقايا الربيع برمالها وتصبح السماء
رمادية وحبات الرمال المصقولة كأنها شظايا تكاد تطفئ الشمس وتجرد العروس من ردائها
الزاهي الأخضروالمطرز بورود قوس قزح. لقد تبدلت ,
قال كذلك نحن حياة إلى موت....يثور في اعماق نفسه يتذكر
ذلك الجبل الذي يطاول السماء بغاربه ," هل سأكون أديماً تذروه الرياح , إنني
راحل إلى هناك فوق الأفق خلف الشمس المحترقة .
تناديه أمه تحتضنه تبكيه وهو حي , تعيد جدل ضفائره
السوداء الطويلة, تضمه كأنها تودعه . نظر أبوه في عينيه ورأى الغموض وقد تبدد ,
رأى الثورة والقوة والجمال , حاول إن يثنيه عن عزمه دون إن يكثر من جداله "دع عنك الطيش والوساوس , غداً عندما نصل إلى عرجون سأبني لك بيت الزوجية " يرى عيون الفتيات
يشحذنه بوله وعشق عذري , يختزن نظراتهن يدخلن تحت جلده و بين أضلعه لكن لم يستطعن
خرق قلبه .يرفض المقايضة " لن أبدل الحريةبالقيود , سوف أبدأ التاريخ أنني
موحد الروح متصلاً مع عشيقتي السماوية , هي وحدها اخترقت قلبي . يشد سرج حصانه
يتوشح صدر السيف يضع البندقية على ظهره وحزام من الجلد ملئ بالطلقات أخذن على صدره شكل خطان متقاطعان وعلى ظهره
كذلك موصول بحزام على الخصر .لاعب الحصان يديه في السماء , صهل في الفضاء , جاوبته
الهضاب والأودية و صمتت الذئاب! أنطلق إلى الحرية المطلقة سبح مع السحاب مر به
الزمن الغابر وأجتاز خلواته السرمدية ,
وجد في الفضاء السحيق ألوان الشفق تسقي تلك الورود الحمراء .
هبط الظلام وناداه في ليلة المحاق عسود ,
أناخ ذلوله الذي
ارتدى عمامة من الزبد المنفوش , أخذا يزيدان النار حطباً ويتبادلان النظرات , إنهما يبحثان عن المفقود بدا الوضوح منهما تبادلا ابتسامة صامتة ونظرا إلى الظلمات
يدفعها الفجر بقوة , يزيح الستار الأسود عن الفلوات لتصطبغ السحب .
يشد عنان حصانه حتى يقف على رجليه ولأول مرة يسمع الحماد
ضحكته
, كانت كزغروده, يجمح فوق الظباء يقيد الاوابـــد ويصعد
إلى الحرية .
يقول لحصانه " لابد أنك تسمع تراتيل الملائكة
" وامتدت روحه في القدم عبر سلسلة متصلة من التساؤلات " أين تلك الحجارة
المبعثرة الداثرة وبقايا ذلك القبر الذي نبتت بجانبه وعند رأسه ورود الديدحان ,
لمن هو لابد أنه للعابرين من هنا , ربما يكون .........لي.....................
يقف على هضبة عالية ينتظر صديقه ثم يلتفت إلى الشرق ليرى
وجه أخيه وكأنه البدر . كانت ابتسامته مبعث الأمل والذي لم يتذمر قط , لقد اسلم كل
شيء للقضاء والقدر .
أحس بنسمة الغروب وعذوبتها كصدر أمه وصوت أبيه يرحب بضيوفه ونفسه النبيلة الجبارة
وتمر عليه أحلام المراهقين .
يترجل ويضع سلاحه جانباً ,وصل عسود وأناخ ذلوله . تبادلا أحاديث التاريخ الخرافي لم
يعودا من عالمين مختلفين , استلقيا على الأرض يراقبان النجوم ولأول مرة يحدثه عن
عشيقته بالإيحاءات " إن حبيبتي خديها
كنور تلك النجمة , أنها عذراء طاهرة لم يمسها انس ولا جان أنها تأسرني وتبهرني
ويشدني الشوق إليها , أنني انتظرها بوله منذ رأيتها أول مرة وتمعنت في حسنها انتظر
خروجها من خدرها , أنها أميرة الجميلات سيدة الحسن والأخلاق لم تبح بسري يوماً ولا
اعتقد أنها سوف تفشيه , لقد عاهدتها من قبل وأومأت لي بسراج نوره ذهبي كأنه ليرتان
عربيتان علقتا بأذني أميرة حسناء جلست على
شاطئ البحر فعكست وهج الشمس لقد وضعت النجوم قلادة على صدرها وهي تختال بمشيتها في
الأفق "
كلما تخبو النار جاؤوا بالحطب فازدادت لهبا تنادي في
الظلمات للتائهين , صهل الحصان وسمعا مجاول الحديد ترنو وقد عاد الذلول من الرعي يجتر تفوح منه رائحة
الشيح والقيصوم .
وغير بعيد عنه
أنثى ذئب يتبعها ثلة من الذئاب أنه حب التناسل وسر الخصوبة , انه لا يقتصر على
الحيوانات بل حتى البشر يتبادلان النظرات مع الذئاب ويمسكان بالبنادق ويسددان
لكنهما لم يطلقا النار فكلما أرسلت النار ضوءاً يريا العيون البراقة يقول لصاحبه::" , أن الذئب لم يغدر بذئب
من بني جنسه إنما الصيد يحتاج إلى الختل والمباغتة والتحايل لاصطياد الفريسة قم للمحسة نسير فمابيننا والمحسه مسير ليله.
تجندا السلاح , هبطا الأودية وصعدا الهضاب والجبال يقطع سكون الليل عواء الذئاب تجاوبها ذئاب أخرى
في أخر عوائها تسمع لجلجة الأضلاع كأنها
نجر البن .
بدا النور يطغى على الظلام , نظر ناصرالى الشرق فلم يرى
السحب أذا لن يرى الشفق ولكنه تذكر دوحته وكأنها لوحة مرسومة بوجه الشرق , وصلا
المحسة ورويا ركائبهما , اغتسلا وعبئا القرب .
لكز حصانه باتجاه الجبل
فناداه صديقه إلى أين , فأومأ له باللحاق به . وصل قمته وكانت الشمس قد
أرسلت لهباً , فتصبب العرق من جسديهما ومرت نسمات غربية باردة بردت جسديهما فأحسا
بالنعيم . نزل ناصر عن حصانه ومسح جبهته ولامس شفتيه ، رفع رأسه شموخاً ثم انحنى
ووقف فوق رجم من الحجارة يتذكر الأيام الخوالي ، حل ضفائره وترك للنسيم حرية
الولوج لينثر شعره قبل أن يحظى بعودة على الأرض.
واصلا المسير وبقيا يومان وليلة حتى طرقا أبواب حمص ،
ولجا من باب هود ، أخذا يتجولان بحرية
تشاورا بالتزود والخروج من المدينة .
جاء إليهما عامل الإسطبل بركائبهما بعد أن علفها الشعير
، خرجا وهما يقودانها . أناخ عسود ذلوله ووضع ناصر قدمه بالركاب ثم اتجها إلى
العاصي ووقفا على ضفاف النهر ، أخذا يراقبان غروب الشمس وهي تلون السحب
رأى ناصر دوحته في الأفق ،التفت إلى كبد السماء ووجد
سحابة ناصعة البياض ، وتذكر قطعة القماش الأبيض التي تكفن بها أخوه عويد . تقطرت
عيناه بالدمع ، وتحشرج صوته تفضحه تنهدات الصدر . فسأله صديقه فلا يجيب وهو يلوح
بوجهه إلى الشرق ، يخفي حزنه ويجدد غموضه
قال ناصر : ما سر وجودنا هنا ؟
: نحن في غزو .
ما سر وجودنا تحت هذه القبة الزرقاء ؟ تؤنسنا بنجوم
بعيدة النور والمنال
بدأ الخيط الأسود يلتف على الخيط الأبيض ويخفي ملامح
الوجوه ، تخرج غيوم البعوض المتعطشة ،يشخر حصانه من البرغش المتطفل ، فاتجها إلى
قرية ذات تل وتناولا الزاد وتبادلا أقاصيص التاريخ الخرافي والنظرات بين الفنية
والأخرى تمتد إلى السماء إلى نجمته اللؤلؤة المتجردة .
ومع بزوغ الفجر كان النسيم يدغدغ وجنتيه ، وبعث إليه
بقطرات الندى كأنهما اللؤلؤ المنثور ، وهديل حمامتين تسبحان على شجرة توت عتيقه
امتطيا ركائبهما وكان العاصي ملاذاً لهما كأنه يجري في
أوردتهما ، أخذا يراقبانه بحذر ، لقد اقتربا من حماه .أنصتا إلى خرير الماء وعنين
النواعير كأنها تشتكي من الدهر ، وكأنهما حملا هموم وأحزان الخلائق ، التي انتشر
أديمها.
في
الارض وقف ناصر بالقرب من أكبرهن ، كان يئن في نفسه كأنه
الحزين الثائر ،من التمادي بالقيود
فأورثته الثورة ، يرى أصحاب الكبر محتقرون في أعين الناس ، يحس في ناعورته التواضع
، إنها تسمو وتزداد رفعة يريد أن يحضنها وهي تدور ،لتنثر الماء من جنباتهاعليه .
اغتسل بدمعها
، همس لهاوابتسم ، لقد أصبحا
متآلفين " إنني أحببت شيئين مختلفين ، أحببت تلك السماوية وكذا أنتي"ّ . ربما أنتي
شطر قلبي الأيمن وهي شطر قلبي الأيسر . هي ليلية سماوية وأنتي أرضية ، فإن كان ولا بد من البحث عن الحرية فهي
معكما أنتما المستحيلتين ، فإني سوف أغتسل من دمعكي للموت وأرسل بروحي إلى نجمتي بكبريائها السامي . نعم إني أبعث
بتواضعي إلى كبريائها " .ناداه صديقه " ما معنى صمتك ، لما يلفك الغموض
، لم لا تدع الماضي ؟ "
قال له " إني أر السعادة في كل مكان تنادي بكل صوت
أحسها وأسمعها ، بسجع الحمام وصرصرة الشاهين وصفير النسر وخرير الماء وتغريد
الطيور وزغاريد أم سالم وبحديث العشاق ، جميعها أسمعها وأحسها في أنين هذه
الناعورة، وهي سعادتي المفقودة ، هي حريتي المطلقة ، هي هنالك خلف الشمس المحترقة
، تكتبها الملائكة في سجل البشر ".
أشار إلى صديقه بيده ،إلى الجنود الأتراك ، قال له
" ما معنى هذا ؟" قال ناصر " لا يوجد عدو سوى الطمع .......".
" الطمع ! " قال عسود " لا حياة بدون غزو ولا حياة بدون مخاطر " . يتذكر ناصر ما ترك في صحرائه الواسعة الرمادية المتجردة
، فيرى أبيه ذلك النبيل الذي لم يمنع الخير عن جيرانه وضيوفه ، تمر أطيافهم أمام
عينيه .. أخيه..أمه ..زوجات أبيه .. أخته .. جيرانه .. أصدقاؤه .. دويشر .. دلي
الزويدي .. خرفان ..صالح ..العبية ..
يقترب من حصانه " ماذا قلت لك ، أم أنك نسيت هذه
الصداقة الأبدية . أنت أخي حين فقدت ، وأنت صديقي حين عاهدت ، وأنت الأصيل الذي
اخترت ، ناصر.....
أبا المثنى......
ناصر ......
التفت إلى عسود فوجده جاء بمعجنات حموية ، تناولاها
وجلسا ،القرفصاء يتبادلان النظرات وكأنهما يتشاوران ، إلى أي أرض يتجهان ؟
" سوف نسير مع النهر
حتى نحصل على ما تريد يا عسود ، نعم سوف تحصل على
الغنائم . تلك جبال الغاب وهذه السهول الواسعة شرقاً وجنوباً ، من هنا وهناك تمر
القوافل ، سوف نخوض المعركة ، نعيدها
للرمال للصحراء ، للعشيرة " .
يعيد شد السرج ، يلاعب الحصان قدميه في السماء ، يصهل في
الفضاء يجاوبه الأفق ، يضع البندقية أمام صدره
، يتوجهان إلى شيزر . تمر عليه السحاب والطيور وأحلام المراهقين ويمر
بالأودية والتلال بحثاً عن الحرية المطلقة .
يحمله عسود بالطريق ويحمل صديقه تارة أخرى بالأحاديث عن
الفروسية والشجاعة ، لقد تعلما من الزمن الغابر والماضي السحيق أن الشجاعة في صبر
ساعة ، لقد قطعا المسافات بمساعدة التاريخ الخرافي وما أبعده ، يأتي الموت ولا
يعود الماضي إنه فوق المستحيل .
دخل الليل وخرج دون أن يستأذن ، يلتفان حول الشفق
الأحمر، يريان الماضي الغابر في حجارة
شيزر . مر ببعض الحجارة المبعثرة وقد نبت عليها القريقش ونادت الداثرة كبقية
المخلوقات ضارعة إلى الخالق ألأبدي تسبيحاً.
مكثا غير بعيد عن شيزر وصعدا إلى رابية مجاورة ، أقبلت
ثلاث جمال محملة بالصناديق المرصعة بالودع يحرسها ست رجال ، يستعرضان أمامهم
بالركائب ويلوحون بالبنادق . تعكس السيوف وهج الشمس .
تندلع النيران
من بنادق حماة القافلة ، يحاصرانهم ناصر وعسود ، يفر ثلاثة منهم ويبقى اثنان
يدافعان دفاع المستميت ، يقتربان منهم خلف الصخور ويرميا البنادق من أيديهم ،
ويطلب عسود منهم الرحيل مسرعين ،
لقد كسبا الجمال بأحمالها وأربع بنادق ، ينيخ عسود الجمال
ويفتش الصناديق ،و تسمع التلال ضحكاتهم .
رأى ناصر أحدهم يتسلل خلف الصخور ، صعد إلى التلة يراقبه
، بيده بندقية يسدد على عسود وقبل أن يطلق كان ناصر قد بادره بالرصاص ، يخطئه
ويبقى خلف الصخرة لا يخرج من خلفها
يتساءل ناصر " لم لم يهرب ؟ ربمااجبره سيده، ربمااوعده
الذهب ، إنه الطمع ونحن ماذا نريد ، أنه الطمع ، الطمع ! قاتل والحرية قاتله ، نعم
إنها بلون الدماء كتيجان ورود الديدحان كلون الشفق الأحمر .
يقترب عسود من
الصخرة يحميه ناصر يقول اخرج رافعاً يديك ولك الأمان على روحك " يجيب
مستسلماً ويربط يديه إلى ظهره ثم يقيد رجليه ويجلسه فوق الصخرة ، يثير عسود الجمال
ويحثها بالعصا يطاردهن بذلوله .انطلق ناصر إلى التل القريب ، ورأى قافلة أخرى أومأ
لصديقه فأناخ عسود ذلوله وقهر الجمال ، صعد راكضاً . إنها قافلة كبيرة
يحرسهامجموعة من الجنود الاتراك.
أطلق عسود النار باتجاههم فشق صوتها صمت الأفق ،فيلتجئون
إلى الصخورو يطلقون النارلتسكن برهة
فرت القافلة بأحمالها وبقي ثلاثة يحرسون المؤخرة ، ولا
يكفون عن إطلاق النار ، قال ناصر " إنه هو ، أنه ذلك الرجل الذي يغمز
بعينيه الأرض , إنه غادر ، عيناه تحيكان
الغدر والخيانة إنهما لا تحكيان الشجاعة "
لم ينفض حدسه هذه المرة .
يحك الحصان جبينه برأس ناصر ويطلقان النار باتجاه
الثلاثة ، سقط رجلان واختفى الثالث بين الصخور
.وقف ناصر على ا لصخرة الكبيرة وناداه " أين أنت ،إنني أعرفك " ومن
بين صمت الصخور وهدوء الأفق وسكون الأرض ،
حدث دوي رهيب .
تخرج الرصاصة ليحتضنها صدر ناصر ، نادى في الظلمات تلونت
السحب بلون الشفق ، عوت الذئاب ، جاوبتهن أضلاع التلال ، ينظر إلى حصانه "
" يحدث الصمت ، يشق سكون الأرض وهدوء الأفق وصمت
الصخور طلقة تخرق الكون ، يصهل الحصان ،
يلاعب قدميه في السماء ، ويسقط .
لقد اخترق الرصاص قلبه ، تخر دموعه ،تنادت المخلوقات
بوحدانية الخالق الأبدي ،
يرى حجارة مبعثرة داثرة ، إنها بقايا قبر نبتت بجانب
القبر وعند رأسه ورود الديدحان .
و في السماء رأى حبيبته تبتسم له وازدادت جمالاً وحسناً
، وذلك الجبل يرتدي عمامته ، يضع يده على قبضة سيفه ورمحين يعكسان وجه الشمس
مكلبات على جانب سرج فرسه ، كأنها شقة الماس بيضاء كندافة قطن ، إنه وحيد يطاول
السماء بغاربه .
تلمع في عينيه رفة أبيه تعكس نور الشمس ، وهي تقطر سمناً
ودسماً ،
يطوف عليه أناس لا يعرفهم ، يمتد الخيط الأسود عليه
موشحات بيضاء وطلاسم قدعرفهاالآن ،
يزحف فوق جرحه يصل حصانه ويمسح دموعه الآن اذنيك تسمع تراتيل الملائكه واسمعهم
معك ويتخالط الدمع والدم . يسقي بالدماء
القريقش ، لقد ذبلت عيناهما السوداوين الواسعتين الجميلتين مثل ورود دوحته،تسبح فوقه غمامة بيضاء قطعة
القماش الناصعة ، يسمع أنين ناعورته تؤنسه وهي تزداد سمواً ورفعة.
يخط بسبابته ، يرسم حجارة مبعثرة بجانب القبر وعند رأسه
ورود الديدحان، يتنازعه البغيضين ، يخط نصف دائرة .
كإنه كتب الوصية
//////////////////////////////////////////////
توفي ناصر عن عمر إحدى وعشرين عاماً ، في قرون حماه
بالقرب من شيزر ، عاد عسود وترك كل شيء . التقى بالنزل وهم رحيل متجهين إلى قرية عرجون الوادعة على ضفاف العاصي ،و بالقرب من قرية المنزول التقى
بالرحيل . بنيت البيوت وتوفيت أمه حزناً عليه .أخذ والده رحول ناصر يرافقه عسود
ليرى مقتل ابنه ، حمله على رحوله وهو
يحتضنه ، ، وبعد وصولهم إلى قرية
المنزول دفن في التل
بقلم عقل العياش الحسيني العنزي